يشهد قطاع الطباعة تحولاً جذرياً. ففي ظل تزايد الوعي البيئي لدى الشركات والمستهلكين، لم يعد بالإمكان التركيز على الإنتاجية والكفاءة فقط، بل أصبح التحدي الحقيقي يكمن في تقديم خدمات طباعة عالية الجودة مع تقليل الأثر البيئي إلى أدنى حد ممكن، وبطريقة عملية.
وتشير الأبحاث إلى توجه المستهلكين المتزايد حالياً نحو العلامات التجارية التي تلتزم بالقضايا البيئية. فقد أظهر أحد استطلاعات الرأي أن 66% من المشاركين يأخذون الاستدامة بعين الاعتبار عند اتخاذ قرارات الشراء، وترتفع هذه النسبة بشكل ملحوظ بين جيل الألفية. ولا شك أن هذه التطورات تعزز التزام المؤسسات بمسؤولياتها البيئية.
الورق نفسه يعد أكثر استدامة مما يعتقد الكثيرون. فالغابات الأوروبية، التي توفر الخشب اللازم لصناعة الورق (23% من الإنتاج العالمي)، تنمو يومياً بمعدل يزيد عن مساحة 1500 ملعب كرة قدم. بالإضافة إلى ذلك، يُعاد تدوير 79% من الورق و83% من مواد التغليف الورقية، وتحويلها إلى منتجات جديدة في أوروبا، وهو أحد أعلى معدلات إعادة التدوير بين جميع المواد. ويواصل القطاع تحسين معاييره البيئية، حيث يتم الاعتماد على المصادر المتجددة لتوليد 62% من الطاقة المستخدمة في إنتاج الورق والتغليف الورقي في أوروبا.
ويُضيف التحول الرقمي في قطاع الطباعة بُعداً جديداً من مزايا الاستدامة. فحلول الطباعة السحابية باتت تلغي الحاجة إلى الأجهزة غير الضرورية، في حين تُقلل إمكانات الطباعة المتنقلة من الحاجة إلى وجود طابعات متعددة في المكاتب. وتساعد التحليلات المتقدمة الشركات على فهم أنماط الطباعة الخاصة بها، وتحديد المجالات التي قد تحقق فيها البدائل الرقمية نتائج أفضل من الطباعة التقليدية. حتى المزايا البسيطة تُحدث فرقاً، مثل الطباعة الآلية على الوجهين وأنماط المسودة (الأنماط التجريبية). وعند دمجها مع أنظمة إدارة المستندات الذكية، تصبح هذه الأدوات الرقمية قادرة على تغيير طريقة تفكيرنا في إدارة آلية التعامل مع المستندات، بشكل جذري.
لقد شهدت التكنولوجيا التي تساهم في هذه التغييرات تطوراً ملحوظاً. وتتيح حلول إدارة الطباعة الحديثة للشركات تحكماً غير مسبوق في أنشطة الطباعة، مما يُساهم في تقليل الهدر وتحسين استهلاك الموارد.
ولعل هذه التطورات تكتسب أهمية خاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث يُعتبر استهلاك الطاقة مصدر قلق مستمر. ولم تعد أنظمة الطباعة الموفرة للطاقة مجرد مزايا جذابة، بل أصبحت أدوات أساسية للأعمال المستدامة والمسؤولة.
لكن التكنولوجيا وحدها ليست كافية، إذ يتطلب التغيير الحقيقي تحول طريقة تفكيرنا ونهجنا تجاه الطباعة. وهذا يتضمن تفعيل دور الموظفين، ووضع سياسات واضحة، وقياس النتائج بشكل دوري. فقد تجاوزت الشركات الأكثر نجاحاً مرحلة اعتبار ممارسات الطباعة المسؤولة مجرد روتين، حيث رأت فيها فرصة للابتكار وتحقيق ميزة تنافسية.
وهنا تكمن الأهمية الحقيقية للتعاون بين شركات الطباعة، فلا يمكن لأي شركة بمفردها قيادة هذا التحول. نحن بحاجة إلى تبادل أفضل الممارسات، وتشارك الجهود في مجال الابتكار، وتوحيد معايير القطاع. وبفضل تركيزها المستمر على الابتكار والاستدامة، ثمة فرصة كبيرة أمام منطقة الشرق الأوسط لقيادة هذه الجهود التعاونية.
وبرأيي، يعد هذا التوقيت الأمثل. إذ يوفر سوق الطباعة في المملكة العربية السعودية، والذي تبلغ قيمته 800 مليون دولار وينمو بمعدل 8% سنوياً، دعماً كبيراً لهذا القطاع. وقد أبرز معرض الخليج للطباعة والتغليف 2025، الذي استضافته المملكة العربية السعودية – أكبر سوق للطباعة في المنطقة – كيف يمكن للرقمنة والاستدامة أن يتكاملا معاً. وفي ضوء التوقعات بوصول قيمة سوق مواد التغليف في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا إلى 116.99 مليار دولار بحلول عام 2030، أصبح التحول نحو تبني حلول مسؤولة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
ومع تطور القطاع، سنشهد تقنيات أكثر كفاءة، وبرامج إعادة تدوير محسنة، وأنظمة مراقبة ذكية. لكن الفرصة الحقيقية تكمن في تغيير نظرتنا إلى مفهوم الطباعة المسؤولة. فبدلاً من اعتبار الاستدامة عائقاً أمام الأعمال، يجب التعامل معها كمصدر للإبداع والنمو في عالم يزداد فيه الوعي البيئي.
ماذا يعني هذا على أرض الواقع؟ اكتشفت العديد من الشركات أن التغيرات التي قد تبدو بسيطة يمكن أن تحدث تأثيرات كبيرة. لذا يجب التفكير بحلول سير العمل الرقمية التي تُقلل من الحاجة إلى الطباعة التجريبية، أو الخوارزميات الذكية التي تُحسن تصميمات الطباعة لتقليل الفاقد. وهذه الابتكارات تؤدي إلى عمليات أكثر كفاءة وانسيابية، مما يوفر الوقت والمال.
من ناحية أخرى، نلاحظ تحسناً في توقعات العملاء. فعملاؤنا في الشرق الأوسط أصبحوا يسألون بشكل متزايد عن المعايير البيئية إلى جانب الجودة والسعر. هم يريدون معرفة خيارات الورق المعاد تدويره والعمليات الموفرة للطاقة. وهذا لا يتعلق فقط بتلبية المتطلبات التنظيمية، وإنما أيضاً بالحفاظ على القدرة التنافسية في سوق يُعد فيه الالتزام بالمسؤولية البيئية أمراً بالغ الأهمية.
لا تقتصر الأسئلة التي يجب أن نطرحها على أنفسنا على كيفية تقليل استخدام الورق، بل تتعداها إلى إعادة تصور ماهية الطباعة في عالم يولي اهتماماً أكبر للبيئة. كيف يمكننا استخدام التكنولوجيا للطباعة بذكاء أكبر، وليس أقل؟ كيف نضمن أن الاستدامة تُحفّز الابتكار لا أن تُقيّده؟ هذه هي الحوارات التي سترسم مستقبل القطاع.
بقلم شادي بخور، رئيس الوحدة التجارية لدى كانون الشرق الأوسط